الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)
فبلغت أبياته سعداً فقال: اللهم إن كان هذا كاذباً وقال الذي قاله رياء وسمعةً فاقطع عني لسانه! إنه لواقفٌ في الصف يومئذ أتاه سهم غرب فأصاب لسانه فما تكلم بكلمة حتى لحق بالله تعالى. فقال جرير بن عبد الله نحو ذلك أيضاً، وكذلك غيره، ونزل سعدٌ إلى الناس فاعتذر إليهم وأراهم ما به من القروح في فخذيه وأليتيه، فعذره الناس وعلموا حاله، ولما عجز عن الركوب استخلف خالد عرفطة على الناس، فاختلف عليه فأخذ نفراً ممن شغب عليه فحبسهم في القصر، منهم: أبو محجن الثقفي، وقيدهم، وقيل: بل كان حبس أبي محجن بسبب الخمر، وأعلم الناس أنه قد استخلف خالداً وإنما يأمرهم خالد، فسمعوا وأطاعوا، وخطب الناس يومئذٍ، وهو يوم الاثنين من المحرم سنة أربع عشرة، وحثهم على الجهاد وذكرهم ما وعدهم الله من فتح البلاد وما نال من كان قبلهم من المسلمين من الفرس، وكذلك فعل أمير كل قوم، وأرسل سعد نفراً من ذوي الرأي والنجدة، منهم: المغيرة وحذيفة وعاصم وطليحة وقيس الأسدي وغالب وعمرو ابن معدي كرب وأمثالهم، ومن الشعراء: الشماخ والحطيئة وأوس بن مغراء وعبدة بن الطبيب وغيرهم، وأمرهم بتحريض الناس على القتال، ففعلوا.وكان صف المشركين على شفير العتيق، وكان صف المسلمين مع حائط قديس والخندق، فكان المسلمون والمشركون بين الخندق والعتيق، ومع الفرس ثلاثون ألف مسلسل وثلاثون فيلاً تقاتل، وأمر سعد الناس بقراءة سورة الجهاد، وهي الأنفال، فلما قرئت هشت قلوب الناس وعيونهم وعرفوا السكينة مع قراءتها. فلما فرغ القراء منها قال سعد: الزموا مواقفكم حتى تصلوا الظهر، فإذا صليتم فإني مكبر تكبيرة فكبروا واستعدوا، فإذا سمعتم الثانية فكبروا والبسوا عدتكم. ثم إذا كبرت الثالثة فكبروا ولينشط فرسانكم الناس، فإذا كبرت الرابعة فازحفوا جميعاً حتى تخالطوا عدوكم وقولوا لا حول ولا قوة إلا بالله. فلما كبر سعد الثالثة برز أهل النجدات فأنشبوا القتال، وخرج إليهم من الفرس أمثالهم، فاعتوروا الطعن والضرب، وقال غالب بن عبد الله الأسدي: فخرج إليه هرمز، وكام من ملوك الباب والأبواب، وكان متوجاً، فأسره غالب، فجاء به سعداً ورجع وخرج عاصم وهو يقول: فطارد فارسياً فانهزم، فاتبعه عاصم حتى خالط صفهم، فحموه، فأخذ عاصم رجلاً على بغل وعاد به، وإذا هو خباز الملك معه من طعام الملك وخبيصٌ، فأتى به سعداً فنفه أهل موقفه. وخرج فارسي فطلب البراز، فبرز إليه عمرو بن معدي كرب، فأخذه وجلد به الأرض، فذبحه وأخذ سواريه ومنطقته. وحملت الفيلة عليهم ففرقت بين الكتائب، فنفرت الخيل، وكانت الفرس قد قصدت بجيلة بسبعة عشر فيلاً، فنفرت خيل بجيلة، فكادت بجيلة تهلك لنفار خيلها عنها وعمن معها، وأرسل سعد إلى بني أسد أن دافعوا عن بجيلة وعمن معها من الناس. فخرج طليحة بن خويلد وحمال بن مالك قفي كتائبهما فباشروا الفيلة حتى عدلها ركبانها. وخرج إلى طليحة عظيم منهم، فقتله طليحة، وقام الأشعث بن قيس في كندة حين استصرخهم سعد فقال: يا معشر كندة لله در بني أسد أي فري يفرون واي هذٍّ يهذون عن موقفهم، أغنى كل قوم ما يليهم، وأنتم تنتظرون من يكفيكم، أشهد ما أحسنتم أسوة قومكم من العرب. فنهد ونهدوا معه، فأزالوا الذين بأزائهم. فلما رأى الفرس ما يلقى الناس والفيلة من أسد رموهم بحدهم وحملوا عليهم وفيهم ذو الحاجب والجالينوس، والمسلمون ينتظرون التكبيرة الرابعة من سعد، فاجتمعت حلبة فارس على أسد ومعهم تلك الفيلة فثبتوا لهم، وكبر سعد الرابعة وزحف إليهم المسلمون ورحا الحرب تدور على أسد، وحملت الفيول على الميمنة والميسرة فكانت الخيول تحيد عنها.فأرسل سعد إلى عاصم بن عمرو التميمي: يا معشر بني تميم، أما عندكم لهذه الفيلة من حيلة؟ قالوا: بلى والله! ثم نادى في رجال من قومه رماة وآخرين لهم ثقافة فقال: يا معشر الرماة، ذبوا ركبان الفيلة عنهم بالنبل. وقال: يا معشر أهل الثقافة، استدبروا الفيلة فقطعوا وضنها، وخرج يحميهم ورحا الحرب تدور على أسد وقد جالت الميمنة والميسرة غير بعيد، وأقبل أصحاب عاصم على الفيلة فأخذوا بأذناب توابيتها فقطعوا وضنها وارتفع عواؤهم فما بقي لهم فيل إلا أوى وقتل أصحابها ونفس عن أسد وردوا فارساً عنهم إلى مواقفهم واقتتلوا حتى غربت الشمس ثم حتى ذهبت هدأة من الليل، ثم رجع هؤلاء وهؤلاء، وأصيب من أسد تلك العشية خمسمائة، وكانوا ردءاً للناس، وكان عاصم حامية للناس، وهذا اليوم الأول، وهو يوم أرماث؛ فقال عمرو بن شأس الأسدي: الأبيات. وكان سعد قد تزوج سلمى امرأة المثنى بن حارثة الشيباني بعده بشراف، فلما جال الناس يوم أرماث، وكان سعد لا يطيق الجلوس، جعل سعد يتململ جزعاً فوق القصر، فلما رأت سلمى ما يصنع الفرس قالت: وامثنياه! ولا مثنى للخيل اليوم! قالت ذلك عند رجل ضجر مما يرى في أصحابه ونفسه، فلطم وجهها وقال: أين المثنى عن هذه الكتيبة التي تدور عليها الرحا! يعني أسداً وعاصماً. فقالت: أغيرةً وجبناً؟ فقال: والله لا يعذرني اليوم أحد إن لم تعذريني وأنت ترين ما بي! فتعلقها الناس لم يبق شاعر إلا اعتد بها عليه، وكان غير جبان ولا ملوم.
فرقت له سلمى وأطلقته وأعطته البلقاء فرس سعد، فركبها حتى إذا كان بحيال الميمنة كبر ثم حمل على ميسرة الفرس ثم رجع خلف المسلمين وحمل على ميمنتهم، وكان يقصف الناس قصفاً منكراًن وتعجب الناس منه وهم لا يعرفونه، فقال بعضهم: هو من أصحاب هاشم أو هاشم نفسه، وكان سعد يقول: لولا محبس أبي محجن لقلت هذا أبو محجن وهذه البلقاء. وقال بعض الناس: هذا الخضر. وقال بعضهم: لولا أن الملائكة لا تباشر الحرب لقلنا إنه ملك. فلما انتصف الليل وتراجع المسلمون والفرس عن القتال أقبل أبو محجن فدخل القصر وأعاد رجليه في القيد وقال: فقالت له سلمى: في أي شيء حبسك؟ فقال: والله ما حبسني بحرام أكلته ولا شربته ولكنني كنت صاحب شرابٍ في الجاهلية، وأنا امرؤ شاعر يدب الشعر على لساني، فقلت: فلذلك حبسني. فلما أصبحت أتت سعداً فصالحته، وكانت مغاضبة له، وأخبرته بخبر أبي محجن، فأطلقه فقال: اذهب فما أنا مؤاخذك بشيء تقوله حتى تفعله. قال: لا جرم، والله لا أجيب لساني إلى صفة قبيح أبداً!
وقتلت كندة تركاً الطبري، وكان مقدماً فيهم.وأصبح الناس ليلة الهرير- وتسمى ليلة القادسية من بين تلك الليالي- وهم حسرى لم يغمضوا ليلتهم كلها. فسار القعقاع في الناس فقال: إن الدائرة بعد ساعة لمن بدأ القوم، فاصبروا ساعة واحملوا، فإن النصر مع الصبر فأثروا الصبر على الجزع. فاجتمع إليه جماعة من الرؤساء وصمدوا لرستم حتى خالطوا الذين دونه مع الصبح فلما رأت ذلك القبائل قام فيها رؤساؤهم وقالوا: لا يكونن هؤلاء أجد في أمر الله منكم، ولا هؤلاء، يعني الفرس، أجرأ على الموت منكم. فحملوا فيما يليهم وخالطوا من بإزائهم فاقتتلوا حتى قام قائم الظهيرة، فكان أول من زال الفيرزان والهرمزان فتأخرا وثبتا حيث انتهيا، وانفرج القلب وركد عليهم النقع وهبت ريح عاصف فقلعت طيارة رستم عن سريره فهوت في العتيق، وهي دبور، ومال الغبار عليهم، وانتهى القعقاع ومن معه إلى السرير فعثروا به وقد قام رستم عنه حين أطارت الريح الطيارة إلى بغال قد قدمت عليه بمال فهي واقفة، فاستظل في ظل بغل وحمله، وضرب هلال بن علقمة الحمل الذي تحته رستم فقطع حباله ووقع عليه أحد العدلين، ولا يراه هلال ولا يشعر به، فأزال عن ظهره فقاراً، وضربه هلال ضربة فنفحت مسكاً. ومضى رستم نحو العتيق فرمى بنفسه فيه، واقتحمه هلال عليه وأخذ برجليه ثم خرج به فضرب جبينه بالسيف حتى قتله، ثم ألقاه بين أرجل البغال ثم صعد السرير وقال: قتلت رستم ورب الكعبة! إلي إلي! فأطافوا به وكبروا، فنفله سعد سلبه، وكان قد أصابه الماء ولم يظفر بقلنسوته، ولو ظفر فها لكانت قيمتها مائة ألف.وقيل: إن هلالاً لما قصد رستم رماه رستم بنشابة أثبت قدمه بالركاب، فحمل عليه هلال فضربه فقتله ثم احتز وعلقه ونادى: قتلت رستم! فانهزم قلب المشركين.وقام الجالينوس على الردم ونادى الفرس إلى العبور، وأما المقترنون فإنهم جشعوا فتهافتوا في العتيق، فوخزهم المسلمون برماحهم فما أفلت منهم مخبر، وهم ثلاثون ألفاً، وأخذ ضرار بن الخطاب درفش كابيان، وهو العلم الأكبر الذي كان للفرس، فعوض منه ثلاثين ألفاً، وكانت قيمته ألف ألف ومائتي ألف. وقتلوا في المعركة عشرة آلاف سوى من قتلوا في الأيام قبله، وقتل من المسلمين قبل ليلة الهرير ألفان وخمسمائة، وقتل ليلة الهرير ويوم القادسية ستة آلاف فدفنوا في الخندق حيال مشرق، ودفن ما كان قبل ليلة الهرير على مشرق، وجمعت الأسلاب والأموال فجمع منها شيء لم يجمع قبله ولا بعده مثله.وأرسل سعد إلى هلال فسأله عن رستم، فأحضره، فقال: جرده إلا ما شئت. فأخذ سلبه فلم يدع عليه شيئاً. وأمر القعقاع وشرحبيل باتباعهم حتى بلغا مقدار الخرارة من القادسية، وخرج زهرة بن الحوية التميمي في آثارهم في ثلاثمائة فارس، ثم أدركه الناس فلحق المنهزمين والجالينوس يجمعهم، فقتله زهرة وأخذ سلبه، وقتلوا ما بين الخرارة إلى السيلحين إلى النجف، وعادوا من أثر المنهزمين ومعهم الأسرى، فرؤي شاب من النخع وهو يسوق ثمانين رجلاً أسرى من الفرس.واستكثر سعدٌ سلب الجالينوس فكتب فيه إلى عمر. فكتب عمر إلى سعد: تعمد إلى مثل زهرة وقد صلي بمثل ما صلى به وقد بقي عليك من حربك ما بقي تفسد قلبه، امض له سلبه وفضله على أصحابه عند عطائه بخمسمائة.ولما اتبع المسلمون الفرس كان الرجل يشير إلى الفارسي فيأتيه فيقتله، وربما أخذ سلاحه فقتله به، وربما أمر رجلين فيقتل أحدهما صاحبه.ولحق سلمان بن ربيعة الباهلي وعبد الرحمن بن ربيعة بطائفة منهم قد نصبوا راية وقالوا: لا نبرح حتى نموت، فقتلهم سلمان ومن معه. وكان قد ثبت بعد الهزيمة بضع وثلاثون كتيبة استحيوا من الفرار، وقصدهم بضعة وثلاثون من رؤساء المسلمين لكل كتيبة منها رئيس. وكان قتال أهل الكتائب من الفرس على وجهين، منهم من هرب ومنهم من ثبت حتى قتل، وكان ممن هرب من أمراء الكتائب الهرمزان، وكان بإزاء عطارد، ومنهم أهوذ، وكان بإزاء حنظلة بن الربيع، وهو كاتب النبي، صلى الله عليه وسلم، ومنهم زاد بن بهيش، وكان بإزاء عاصم بن عمرو، ومنهم قارن، وكان بإزاء القعقاع؛ وكان ممن ثبت وقتل شهريار بن كنارا، وكان بإزاء سلمان ابن ربيعة، وابن الهربذ، وكان بإزاء عبد الرحمن بن ربيعة، والفرخان الأهوازي، وكان بإزاء بسر بن أبي رهم الجهني، ومنهم خشدسوم الهمذاني، وكان بإزاء ابن الهذيل الكاهلي.وتراجع الناس من طلب المنهزمين وقد قتل مؤذنهم، فتشاج المسلمون في الأذان حتى كادوا يقتتلون، وأقرع سعد بينهم فخرج سهم رجل، فأذن. وفضل أهل البلاء من أهل القادسية عند العطاء بخمسمائة خمسمائة، وهم خمسة وعشرون رجلاً، منهم: زهرة وعصمة الضبي والكلج؛ وأما أهل الأيام قبلها فإنهم فرض لهم على ثلاثة آلاف فضلوا على أهل القادسية، فقيل لعمر: لو ألحقت بهم أهل القادسية. فقال: لم أكن لألحق بهم من لم يدركهم. وقيل له: لو فضلت من بعدت داره على من قاتلهم بفنائه. قال: كيف أفضل عليهم وهم شجن العدو! فهلا فعل المهاجرون بالأنصار هذا! وكانت العرب تتوقع وقعة العرب وأهل فارس بالقادسية فيما بين العذيب إلى عدن أبين وفيما بين الأبلة وأيلة، يرون أن ثبات ملكهم وزواله بها؛ وكانت في كل بلد مصيخة إليها، تنظر ما يكون من أمرها. فلما كانت وقعة القادسية سارت بها الجن فأتت بها أناساً من الإنس فسبقت أخبار الإنس إليهم.وكتب سعد إلى عمر بالفتح وبعدة من قتلوا وبعدة من أصيب من المسلمين، وسمى من يعرف مع سعد بن عميلة الفزاري. وكان عمر يسأل الركبان من حين يصبح إلى انتصاف النهار عن أهل القادسية ثم يرجع إلى أهله ومنزله، قال: فلما لقي البشير سأله من أين؟ فأخبره، قال: يا عبد الله حدثني. قال: هزم الله المشركين. وعمر يخب معه يسأله والآخر يسير على ناقته لا يعرفه حتى دخل المدينة وإذا الناس يسلمون عليه بإمرة المؤمنين، قال البشير: هلا أخبرتني، رحمك الله، أنك أمير المؤمنين! فقال عمر: لا بأس عليك يا أخي.وأقام المسلمون بالقادسية في انتظار قدوم البشير، وأمر عمر الناس أن يقوموا على أقباضهم ويصلحوا أحوالهم ويتابع إليهم أهل الشام ممن شهد اليرموك ودمشق ممدين لهم، وجاء أولهم يوم أغواث وآخرهم بعد الغد يوم الفتح فكتبوا فيهم إلى عمر يسألونه عما ينبغي أن يشار فيه مع نذير بن عمرو.وقيل: كانت وقعة القادسية سنة ست عشرة، قال: وكان بعض أهل الكوفة يقول: إنها كانت سنة خمس عشرة، وقد تقدم أنها كانت سنة أربع عشرة.حمضة بن النعمان بضم الحاء المهملة، وفتح الميم، وبالضاد المعجمة. بسر بن أبي رهم بضم الباء الموحدة، وسكون السين المهملة. والحوية بفتح الحاء المهملة، وكسر الواو، وقيل بالجيم المضمومة، وفتح الواو؛ والأول أصح. وحمال بفتح الحاء المهملة، وتشديد الميم. والمعنى بضم الميم، وفتح العين المهملة، والنون المشددة. وحصين بن نمير بضم الحاء، وفتح الصاد. ومعاوية بن حديج بضم الحاء، وفتح الدال المهملتين، وآخره جيم. والمعتم بضم الميم، وسكون العين المهملة، وفتح التاء فوقها نقطتان، وآخره ميم مشددة. وصرار بكسر الصاد المهملة، وبالرائين المهملتين بينهما ألف: موضع عند المدينة. وصنين بكسر الصاد المهملة، والنون المشددة بعدها ياء ساكنة معجمة باثنتين من تحتها، وآخره نون: موضع من ناحية الكوفة.انتهى خبر القادسية.
|